-موقع الاستقلال-الحلقة الأولى
بين الحكم بظلم النفس
منذ أيام تم تداول ثلاث صوتيات جيدة الإخراج، بصوت إذاعي جهوري معبر، وبترتيب منهجي واضح، يدل على أن صاحب الصوتيات يملك ثقافة موسعة وقدرة حسنة على الإلقاء، وصبرا على الحضور الذهني، و ترتيب الأفكار.
كل ذلك بطريقة لايعيبها سوى أن العناية بالشكل وجاذبيته تصرف انتباه السامع أحيانا كثيرة عن التحقق من تماسك مضمونها وطريقة بناء حججها على نحو منطقي سليم، في الغالب.
كما يلاحظ الناظر بدقة إلى العناية بالشكل وجماليات البيان صرفت انتباه قائلها نفسه عن احترام مسألة جوهرية في الكتابة والعرض وهي مراعاة ترتب النتائج التي يصل إليها على المقدمات الذي يبني عليها.
ومما يتفق عليه الكتاب المتمكنون أن أخطر مايهدد الكاتب عموما وكاتب الرأي بالذات، خاصة في المجالات الفكرية، هو أن يصرفه تهذيب الشكل وتناسقه، وتلميعه عن إحكام أفكاره وتعميقها. وهي ظاهرة أضرت كثيرا -كما سنرى- بتماسك حجج السيد الكاتب والباحث القاضي أحمد ولد هارون ولد الشيخ سيديا.
وبما أنني لست من أهل هذا الفن وإنما منزلتي منهم هي منزلة الإعجاب مصداقا لقول الشاعر: "أحب الصالحين ولست منهم"، فإنني سأضع نصب عيني ما استنتجته حول العلاقة القلقة بين شكل الصوتيات وبين فحواها، لأن هذا النقص -حسب وجهة نظري المتواضعة- حكم آلية المعالجة السياسية، موضوع "الفوكالات"..
وسأوضح ذلك أثناء، وفي نهاية هذه المناقشة، التي هي رد على المضمون واختبار لقوة بناء الاستنتاجات وتأسيس الأطروحات، وليست تنافسا في شأو الجماليات الشكلية للتعبير؛ التي تميز فيها السيد القاضي أحمد.
على أن تتألف المناقشة من ثلاث حلقات، بناء على منهجية الصوتيات الثلاثية.
وللتنبيه فإنه لم يحصل لي شرف التعرف سابقا على هذا الكاتب الخطيب، مع أنه من الخطباء والكتاب بدليل أن ما أورده منظم كتابيا قبل إلقائه، فما نطقه شفهيا يوحي بمسارات كتابية واضحة، و بإعداد مسبق جلي.
وأود ابتداء أن أقدم أربع ملاحظات قبل الخوض في تفاصيل ردي وأرجو أن أحترم من خلالها أدبيات الرد والحوار:
الأولى: أن مجال السياسة ظني اجتهادي وليس مجالا علميا دقيقا يمكن التحاكم فيه لمعايير متفق عليها. مما يحتم على الكاتب أن ينأى -ما أمكن- عن الوثوقية الزائدة (الدوغما) ويعلم أن مجال الأحكام مجال نبي للغاية، مما يجعل الوثوقية والصيغ القطعية وبالا على التفكير. وفيها عدم احترام للمتلقي.
الثانية: سأحاول فهم الحجج التي سأرد عليها بأمانة قبل اىرد عليها.. ودون رغبة مخلة في التغلب على الأفكار المطروحة بشكل تعسفي، أو أن أتحكم فيها تحكما مخلا بها.
الثالثة: أن الخلاف في الرأي لايبيح لأي طرف أن يخالف محاوره إلى ما ينهاه عنه من ضرورة احترام المشترك مع الرأي الآخر على أرضية النقاش، امتثالا لقوله تعالى ( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله.)
الرابعة: أنني على دراية نسبية بأن الكلمة المجنحة بالصورة، والنبرة الصوتية الموزونة، والتقريب لعامة الجمهور بلهحته الدارجة.. تملك أفضلية لاتملكها الكلمة المكتوبة، ومع ذلك يشفع لهذا المكتوب أنه موجه للنخبة الفعالة لأنها هي مصب الآراء ومجمع بثها وإعادة توزيعها على الرأي العام، كل بطريقته الخاصة. فالمهم في النهاية هو الفكرة وتماسكها لأنها هي ماسيبقى بعد تدفق البلاغ؛ سواء كان بلاغا مكتوبا منطوقا أم مكتوبا. ولعل بعض النخبة يفضل المكتوب على المنطوق لما له من سكينة الحرف وبركته المتجددة. تعلة لا أنكر أنها تعويضية على كل حال.
سأرتب مواضيع هذه المناقشة لمن لا أدعي بلوغ كعبه العالي في الكتابة المنطوقة ولا المكتوبة، السيد الكاتب القاضي أحمد ولد هارون
على أساس اختصاصه هو:
- التحقيق والتكييف
- التعليل؛
- والحكم.
وسأطبق هذا الترتيب -ما أمكنني- على 62 حكما نهائيا: في السياسية والاجتماع والاقتصاد، والتاريخ، والصحة، والفلسفة والإدارة.. وعلم جديد على خارطة المعارف البشرية يسمى "الفطانكيات" إلخ.
وهي أحكام كلها غير قابلة للاستنئناف، أصدرها السيد القاضي بمعدل قياسي: 31 حكما للسنة على متهم، مما يجعلها أعلى متتالية أحكام عالمية جديرة بالمنافسة على تصدر موسوعة "غينيس" للأرقام القياسية في مجالها..
و المشكل القائم أن بعض هذه الأحكام قد تكون أحكاما مسبقة.
(توضيحا لذلك: تجربة رئيس الجمهورية الغزواني سنتان فقط والحكم على مأموريته سابق لأوانه. وأنتم أيها القاضي الذي.. كان "فيك الخصام وأنت الخصم والحكم"، تعلم أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. والمأمورية لم تنتصف بعد حتى نحكم عليها).
في الحقيقة، ربما يحتاج من يرغب في دفع هذا الكم القياسي من الأحكام النهائية إلى تأليف كتب عديدة. ولذا على القارئ أن يسعد بثلاث مقالات فقط مني، إن رغب في قراءتها فله الفضل وإن لم يرغب فلاتثريب عليه..
يتواصل...
سيدمحمد ولد سيداحمد