-موقع الاستقلال- " عشية يوم الأول من حزيران ، وتلبية لنداء قادم من خلف غيوم المنجاع ، حزمت أمتعتي على عجلٍ (لثام من نيلة وأنعايل يوطلعو) ، تأهبا لرحلة مشيا على الأقدام ذهابا وإيابا من "أگرارت أم نبكة" بقلب منطقة آفطوط إلى "واد المنجاع" بتخوم منطقة بئر أنزران ، في مهمة قد تبدو صعبة على من ألِفَ لبنَ الساقية المُعَلَّبِ أمسنَّدْ ظهرو أعلَ الحيطْ ينتظرُ خبزَ مانولو الدافئ صباحا ، صعدتُ سيارة لاندروفير وعقارب الساعة أشارتِ النصفَ بعد الخامسة مساء ، بمعية العمّ الأبِ المحجوب صاحبِ الوجهِ السّمحِ ، متجهين نحو آفطوطْ وَ "أمْطالبينْ أمْ نبكَة بالمَرْوَحْ "، لم نتحدث كثيرا أثناء المسير إلا أني كلما نظرتُ إليه أفُكُّ شفراتِ صمتِهِ المَهِيبِ ، صمْتٌ ربما حملَ في طيّاتِهِ واقعَ السنةِ من جفافٍ وشُحٍّ موارد وقلة حيلة ... وصلنا "أمْ نَبْكة" وَ "امْراوَحْ الشّمس" لنقضِي الليلةَ هناك على نيّةِ الاستيقاظِ باكرًا وعزْلِ النوق (لخْلَفْ).التي سَتُساقُ نحوَ المنجاعِ في رحلة قد تستغرقٌ اثني عشر يوما ذهابا وإيابا. مع "أظليمتْ الصبح" استيقظتُ متثاقلَ الجسَدِ وخائر القوى بطعمِ أغدّاج على صوتِ أحدهم مناديا : "مولود ، مولود گوم گوم لگوايلْ هاذي" ، فتحت إحدى عينيّ على مضض فإذا بالنجوم لازال سناها في كبد السماء ، فأوَيتُ الفراش مجددا لإكمال النوم ، لكن لسوء الحظ بدا أن هناك من كان يراقبني عن كثب في الجانب القصي من الخيمة ليقول على مسمعي مستفزا إياي: "حاني لك اص اهل الدشرة يوعاوْ ظرك" عبارة مستفزة حقا ، لكن علمتني تجارب الحياة أن أجعل من الاستفزاز والاستنقاص فرصة لرفع سقف التحدي ومضاعفة الجهود ، فكانت تلك العبارة حبة منشط حيوي بالنسبة لي لأنهض من فراشي "أخلالْ" دون تعقيب ، وأخرجَ منتصبَ القامة نحو المصلى الذي نُصبَ أمام الخيمة ، وأيَمّمَ وجهي شطرَ القبلة لصلاة الصبح . بعد إكمال الصلاة و وِردِ الأذكار الصباحية ، هممتُ بالذهاب إلى "انوالة النار" عَلِّي أجدُ قبسًا مشتعلا من نار البارحة أوقدُ به نارَ الصباح قصد التدفئة وإقامةِ الشاي على جمرها "أمنين إفوت إطيحْ" ، لأتفاجأ بخُلُوِّ "أنْوالَة" من عيدانِ الحطبِ اليابسة ، خاوية على العروش لا مواقدَ ولا رمادَ ، وقفتُ مشدوهًا أمام الموقف وقفةَ الباكي دمن الديار .، فعلى غير العادة أن تخلوّ "أنوالة النار" هكذا دون سبب ، فجأة يُخاطبني العمُّ أمحمد وهو أوسطُ الأعمام وأقربهم وجدانا إليّ (متكالعين لعظام) : "أنت واگف عند انوالة شتعدل ؟ الله اطير اهل الدشرة مفيسدهم اتعالَ جايْ ثگَّبْ الفاخرْ على الكوزينة "... فهمتُ من خطابه أنَّ "أنوالة النار" تنكّرَ لها المقربون - وتنكُّرُ المقربين لم تسلم منه البداوة- بعد أن كانت لهم مصدرَ دفء حاضنٍ ومنارةَ إرشادٍ في ظُلَمِ الدُّجى لكل من ضلّ الطريق أو أرادَ أن يجدَ على النارِ هُدًى ...ليحلَّ مكانَها مواقدُ غازية (كوزينة الگاز) هرْوَلتُ نحوَ الخيمةِ وفقا للتعليمات السامية التي أعطانيها العمُّ أمحمد ، ثم تناولتُ فحمًا وأشعلته فوقَ الموقدِ الغازي تأهبا لجلسة شايٍ عاجلة ، هنا كل شيء على السريع يجب أن يكون قبل شروقِ الشمسِ لأن الأخيرَ إيذانٌ بـ "مطلاسْ الحيّة" ولا فرصة لتبديد الوقت ، فعامل الزمن يصنعُ الفارق ولا مناصَ من استغلاله ، وأهلُ البدْوِ حريصون عليه أشدَّ الحِرص ، عكسُنا تماما نحن المتمدّنينَ الذين نضيّعُ عشرات بل مئات الساعات في أمور لا تجدي نفعا فيذهب وقتُنا سُدًى .... تربّعتُ على عرشِ الطّبْلَة في حضرةِ العَمّيْنِ الاثنينِ ، عن يميني العمُّ المحجوب بهدوئهِ المُعتاد وأمامي أمحمد جالسا "على ركبة وكراع" بعَجَلَتِهِ المعهودة وتشاؤمِهِ الدائمِ ، بدأ الحديث عن الرحلة وترتيباتِها ، والطريقُ التي سنسلكُ جنوبًا باتجاهِ المنجاعِ ، وبينما الاثنانِ يتناقشانِ خلوتُ بنفسي هنيهة مع هاتفي الذكي لتنزيل تطبيقGps كي أتمكّنَ من توطينِ الأماكن الجغرافية التي سنمر بها كنوعٍ من الاحتراز ، يفاجئني أمحمد على حين غرة بنبرة المُسْتعجِلِ كدأبِهِ: " أحْ يا أطْفَلْ يگلعْ أهلكْ تَيّ الگايلة هاذي على حد مزال گدامو قدر من أتراب وافصلكْ أمعَ التيليفوناتْ وماشبَاها ، حد جا املي للبدية ينسَ شي اسمو الريزو" كلماتٌ فهمتُ مغزاها ، وتسملت رسالتها بنجاحٍ ، كأني بصاحبها يقول "استعدّ لما هو قادم" ، عساهُ خيرًا ، بعد الانتهاء من جلسة الشاي ، لففتُ عمامةَ لثام النّيلة حول رأسي وربطتُ "الحزّامة" من حولي وأمسكتُ عصًا بيميني ووقفتُ بِهِمّة المتفائل فالرحلةُ البرية أوشكتِ الانطلاق....ذهبتُ إلى النوقِ الخمسِ وفككتُ الأعْقِلة (لعگل) ، التحق بي العمُّ أمحمد ليُرشِدَني الطريق التي سأسلك ريثما يُجهّزُ جَهَازنا من مؤونة نميرُ بها أنفسَنا أثناء الرحلة ، كانت الجهة الجنوب شرقية هي خطُّ المسير الذي أشار عليّ به. ....سُقْتُ وَ طلوعَ الشمسِ النُّوقَ اللائي كُنَّ خِلْفًا خمْسًا صوبَ الاِتجاهِ الذي حُدِّدَ لي ، رُغْمَ أنِّي وجدتُ صعوبة بالغة في الأمتارِ الأولى من المَهَمّة ، فالْخِلفُ عاندْنَ اِتِّجاهَ المسيرِ لأنَّ أعينُهنَّ كانت آنذاك على القطيعِ الأمّ الذي تركتُ خلفي ، سبحانَ الله أضحت الدوابُ أكثرَ امتلاكا لحسِّ الإخلاص بعدما افتقدهُ معشرُ الإنس . كنتُ كلما قطعتُ المزيد من الأمتار أهُشُّ عليهن بعصايَ يُطاوعنَ المسيرَ ، فبعدَ ثلاث ساعاتٍ من السير المتواصل و "المَشْتْمَرْ" قطعتُ خمسة عشر كيلومترا على ذمّةِ Gps ، وخبراءُ الإبل يُقدّرون عدد الكيلرمترات التي تقطعها الإبلُ مشيا خلال الساعة الواحدة بخمسٍ ... علَتِ الشَّمسُ رُبعَ السَّماء ضُحًى ، لم يلتحقْ بعدُ بي أمحمد كما وعدَ ، والساعة أشارت عقاربُها الحاديةَ عشرةَ صباحا ، لا ماءَ يُذْهِبُ الظَّمَأَ أوْ تبتَلُّ منه العروقُ ، و لا ظِلَّ يُستظُلُّ بهِ ، وقتَها أوْجسْتُ خيفة في نفسي حذرَ القضاءِ عطشًا بعُمقِ البيداءِ وبدأتُ أرسُم في ذهني ملامح القضاء إن اِستمرَّ الوضعُ هكذا لا قدّرَ اللهُ ، أبطأتُ السّيرَ قليلا وآوَيْتُ دِفْءَ صخرةٍ "أمدَرَمْزة" علّي أسمع هجْسًا قادما من خلفِ تَلّة ، لا شيء سوى أزيزِ "بوزَيزْوانْ" الذي يُنبِئُ بهجيرٍ مُرْتَقبٍ ، أكملتُ المسيرَ في نفس الاتجاه نحو رُبًى تبعد قرابة الكيلومترين أمامي خمَّنْتُ ربما أن الشكل التضاريسي المستوي للأرض حتما سيكونُ مغايرا ، لما اقتربتُ كانت شفتايَ في بداية التشقق لحرارة الشمس، قصدتُ ربوةً لعلَّها تكون ذات قرارٍ ومعينٍ ، وما إن عَلَيْتُها حتى تراءتْ لي على مرمى زرگةْ دبّوسْ "لوْجة" بمنخفضٍ أرضي بها شجرُ "إگنينْ" ذو الأعراشِ العالية وَ الظلال الوارفة ، إنها لوْجةٌ من لوجْ "أشعيطيطاتْ " ، قررتُ أن لا أبرحها حتى يأتيَنِي أمحمد أو يحكمَ اللهُ لي وهو خيرُ الحاكمين. وقعت عينايَ على "إگنِينَة" فارعةِ الطولِ ومُمْتَدّةِ الاغصان وَرحبةِ الظِّلِّ ، قصدْتُها دونَ ترَدُّدٍ لأسْتَظِلَّ بها وأقيَ نفسي حرَّ يومٍ ماتْلاَ مَتْعايرْ ، وقفتُ بها وتعوّذتُ ثلاثا ونَفثْتُ فهناكَ تمثُّلٌ عامٌّ عند أهل البادية يقول إن شجرَ "إگنينْ" من الأشجارِ التي يتخذُها الجِنُّ مسْكَنًا ، نكَسْتُ تحتها -بعصاي- التربة التي كانت مملوءة بالمواد العضوية و الأشواك ومواقدِ نيرانِ مَن سلفَ مِنَ المُسْتَظِلّينَ وبعرِ الآرامِ ، فاعْتَدْتُ مُتّكَأً وجَلَسْتُ مُسْتَنِدًا جِذْعَ الشجرةِ أستَرِقُ السمْعَ وأرقبُ لعلِّي أسمعُ صوتَ سيّارةٍ ، لاشيء سوى حفيفِ أعراش الشجرةِ ، آهٍ ما ذا لو لم يأت أمحمد ؟ ماذا سيحل بي ؟ أسئلة أصبحت تتسلل خلسة إليّ وتضربُ عُمْقَ المعنوياتِ ليبدأ مؤشرُ الارتفاعِ في النزولِ البطيء ، أحسستُ أنَّ ريقي بدأ ينشف ويتشكل كالصوفِ وتلكم مرحلة متقدمة من مراحل العطشِ ... أغمضتُ عينيّ قليلاً مُبْتغِيا التخفيفَ من عبْءِ التفكيرِ وماهي إلا هُنَيْهَةٌ حتى أخذتْنِي سِنَةٌ دونَ استئذانٍ ، من يدِ التعبِ وَ "مرثة" مسيرٍ مُضْنٍ.... لم أستيقظْ إلا على نفيرِ منبه سيارة لاندروڤر المتواصل الذي خلتهُ بادئ الأمر قطعة من الحُلُمِ ، إنه أمحمدُ نزلَ من السيارة سائلا إيايَ ببرودة وكأنّ الأمرَ بهذه البساطة : "أنتَ أمّالكْ ماتگاني أعويداتْ؟" لم أجبهُ قصدتُ القِربةَ المدَّثِرةَ بِـ"خنشة" والمعلقةَ بالجانب الأيمن للسيارة ، فَكَكْتُ رِباطَها (حليت أرباطها) وبدأتُ بالشرب دون توقف لشدة العطش... استوعبَ العمُّ أمحمد ردة الفعلِ وعدم إجابة السؤال وتحاشى تعكير مزاجي دأبا على تعامل أهل البدوِ مع الوافدين من المدينة حديثا لخدمةٍ ما ، حتى لا ينفروا شمسَ أول يومٍ ويعودوا من حيث أتَوْا ، "ذاك امحالي أفْگلة ليد" ، مناوراتٌ دبلوماسية يجيدُون تشخيصها في قوالب درامية لا تُحَلُّ عُقَدُهَا إلا عند مطالبتك لاحقا بالعودة إلى المدينة ، آنذاك سترى وجهًا عبوسا منقلبا مائة وثمانين درجة على سلم "المَكْشَرْ" ، مع لازمة "ماگطْ ريْنَ فيكْ أفّيْدَة". جمعَ أمحمد بعض العيدانِ بسرعة ثم أوقدَ النارَ وتناولَ "لمّاعين" ليصنعَ الشايَ على غير عادتِهِ ، فكان ذاكَ اعترافٌ بخطأ جسيم في التعاقد الديداكتيكي بيننا وبالتالي لا مَفرَّ من تصحيحه ...فبعد أن استرحتُ وأخذتُ قسطًا لا بأس به من الراحة ذكرَ لي أسباب التأخر الخارج عن الإرادة حسب تعبيرهِ ، وتعاقدنا مجددا على أن تبقى السيارةُ ملازمة لي على امتداد الرحلة فالطريقُ لا زالَ طويلا وشاقا ...أكملنا الشايَ وأخذنا قيلولة حتى الثالثة والنصف زوالا. بعد أخذ القيلولة هممت بتحريك موقد النار قصد إحيائه فوجدته لا زال مشتعلا ، جعلت فوقه بعض العيدان ، و خرجت من تحت ظل "إكْنِينَة" حافيَّ القدمين لأتحسسَ مستوى الحرارة ، وما إن وطئت قدمايَ الترابَ حتى رجعت لمكاني بسرعة البرق لشدة الحرِّ وَ تيَّار "إريفِي" الملتهب ، لمحتُ النوقَ الخِلفَ لا زِلْنَ مستظلات بالأشجار ، أيقنتُ أنَّ الظرف لايسمح باستئناف المسير ، تناولت "أماعينْ أتايْ" لتحضير كأسِ شايِ ريثما تهب تيارات هوائية غربية تحُدُّ من مستوى الحر أو تأتي بنسيم بارد قادم من المحيط "أمنْجْ".... لم يبرح العم أمحمد مُتَّكَأ القيلولة ، وبدا غير مستعجل ربما "أتْكَدْفِيرْ" واعتياده على هذه الأجواء الصعبة جعلاه يخْبِرُ هكذا ظروف مناخية في قلب البيداء ، بل بقي متسمرا في مكانه ، وضعت ماء في قدح متوسط لاعداد مشروب "تَمْبَربَ " المتكون من مسحوق كوفيا و "نيدو" الحليب المجفف ، لم نكن نتوفر على "أمَيْنَاطْ" حينها ... سألتُ العم أمحمد "أحْنَ شوْرْنَ من هونْ اعل اي جيهة؟" فأومأ برأسه ناحية الجنوب الشرقي دون أن ينطق ببنت شفة ، استحضرتُ المثل الذائع الذي يقول "العربي إلى انعت بالگمگوم راهو مَشْيْ يومْ" ، وفهمت أنّ المسير لا زال طويلا ....وبينما نحن نتبادل أطراف الحديث عن مواضيع متفرقة هناك وهناك ، هبّ نسيم غربي بارد ، نهض العم أمحمد من متكئه قائلا: "أدَّشَّ لبحرْ أحْ گومْ النَ يطفلْ مزالت جبدة" ، كان ذاك النسيم اللطيف إيذانا بإمكانية متابعة الرحلة ، غسلتُ أوانيّ الشاي على عجل ووضعتُ المتاع بسيارة لاندروفر ، نبهني العم أمحمد على ضرورة ردم موقدِ النار تلكم عادة سنها البدويون بعد كل رحيل عن مُستقرٍّ ما. قصدتُ الخِلْفَ وعصايَ بيميني لأهش عليهن فطاوعْنَنِي لينطلق عداد رحلة المساء صوبَ رِحابِ منطقة تبعد قرابة الخمسة عشر كيلومترا تُسمى "إيگوطاطن" ، منطقة تقع بالسفوح الشمالية الغربية لثقب "اجريفية" ، كنت أحس برغبة جامحة في رفع مستوى المسير فالجلوس تحت ظل "إيگنينة" لمدة فاقت أربعَ ساعات كان كفيلاً بأخذ قسط وافٍ من الراحة يُنسي تعب مسير الصباح ، كان العم امحمد كلما تقدم أمامي بكيلومترين أو ثلاثة على متن لاندروفر يقف بربوة كي أتمكن من اتباع خط المسير الذي يرسمه لي ، استمر إيقاعُ الرحلة كذلك إلى أن أوشكت شمس الأصيل التوديعَ لتتوارى بحجاب "الدحيميسْ" حينها كنا قد نزلنا بـ "لوجة" مليئة بشجر الطلح "البارك" يتوسطها طريقٌ نَحَتَتْ معالمَه بخط عريض عجلاتُ لاندروفير الواردة ماء "اجريفية" ، قال لي أمحمد :" أحنَ الليلة بِيّاتْ عندْ لوجة ولد عمتك" ، أجبته أيُّ ابنُ عمة ؟ قال "ولد عمتك أمحمد ول أمبيريك اللي امُّو مونة منت الزحاف" ، واستطردَ لقد أُطْلِقَ سمِيُّهُ على هذه "اللوجة"، لأنّ الأجلَ وَافاهُ هُنَا بهذه القيعانِ الطاهرة....بدأ في الحديث عن مناقبه التي لا تحصى وجعل يكيل له المديح ، وبينما نحن نتحدث كنا نبحث عن شجرة نستدفئ بها ليلا ، أوينا "طلحايَة" تقع بالطرف الغربي من اللوجة وأوقفنا السيارة لنضعَ الأمتعة ....تكفل العم أمحمد بالنوقِ الخِلْفِ "إزَگْنَنْهُمْ " ، بينما تكفلت أنا بإشعال موقد النار وتجهيز العشاء ريثما يَشْتَمِلُ الظلام ، ما إن رأت النوقُ النارَ حتى استَنَخْنَ بالقربِ منها . كانت الليلة مقمرة وهادئة لا صوت يعلو فيها صوتَ طائر الكروان المعروف لدى البدو بـ"كرزيط" ، أقمنا الشاي وتحدثنا عن المرحوم أمحمد ول امبيريك وعلاقة القرابة التي تربطُنا به لجهة الأم مونَة منت الزحاف رحمها الله ، ليتضح لي أنها ذرية بعضها من بعض وإن شرذمها فخ السياسة اللعين ، تسامرنا بعد ذلك بإلقاءات شعرية متفرقة أنست مجلسنا حتى رزمَ أول "مخلول" منبِئًا بحلول "العتمة" تناولنا "آدرسْ" وقصدنا الخِلفَ لحلبِهِنّ ، فبعد الانتهاء من عملية "التحلاب" ، جعلت الحليب كله في دلوٍ كبير ووضعت صحنا فوقه كغطاء قرب العجلة الأمامية للسيارة حتى الصباح لنحقِنَهُ في "التاسوفرة" ، لكن بدا أن إحدى الخِلفِ "بيهَا أتْسَنْبي" لها رأي آخر استغلت انشغالنا بالعشاء ونزعتْ الغطاء دون أن نشعرَ وشربت الحليب بالكامل "گالتْ لو فِــيــطْ".... استشاط العم أمحمد غضبا وعاتبني قائلا :"انتَ يمكلوع بوهْ هاذي طرحتاشْ لسْطلْ شربتو الناگة" ، كان خطأ جسيما سأجني ثماره اليوم الموالي بشرابِ "لمريس" ليوم كاملٍ... افترشت الأرضَ واعتدتُ متكأ ملتحفا السماء ، كانت النجوم خفيفة السنا مما ينذرُ بيوم غدٍ شديدِ الحرارة ، ثم نمتُ على إيقاع تمتمة العم امحمد الذي لا زال غاضبا لشدة ما وقع للحليب.... فجر اليوم الثالث لم ينجل سوادُ الليل بعدُ ، والنجوم مضيئة في كبد السماء أيقظني العم أمحمد بصوت يطبعه التهكم قائلا:"گوم گوم صلّي وأگدي النار" ، لازال غاضبا إثرَ حادثة الحليب الذي "جاتْ منْ دونُو خلفَة سَنْبايَة " بسببي ، نهضتُ من مضجعي ثم خطوتُ حافي القدمين دون أن أنتعل نحو المصلى لأصلي ركعتي الصبح ، كانت التربة شديدة البرودة و "متْلَوْمْيَة حتّ" ، فرغتُ من الصلاة وذهبتُ أتحسس عيدانًا رقيقة "گَشْگَاشْ" تكون أقل تبللا جراء قطرات الندى أمام "رگبة لمراح" ، تفطّنَ لي العم أمحمد وبادرني منبها وسائلا بنبرة حادة : "إيـهْ سلام عليكم أنتَ لاشْ أتلوّدْ" ، قلت بأنّي أبحث عن بعض العيدان الرقيقة لأشعل موقد النار ، عقّب مستهزئا :"أصلْ انتُومَة وأتْغَشْمِي ،رگبة لمراحْ أثرْ ينْگلعْ منها عودْ ؟!!!" ، تذكرت ما كان يلقننا آباؤنا ونحن صغار أثناء قضائنا للعطل الصيفية بالبادية ، كانوا يحذروننا من "أحْطَبْ رگبة لمراحْ" لأنه- وحسب العرف- يدخل ضمن دائرة "لمْحالي" ، والأخير يُقصَدُ به المحظور ، فهو في اعتقادهم نذير شؤم يجلب التعس ، شخصيا لي اليقين أن هذا العرف فصل من فصول الخرافة المنتشرة بمجتمعنا . عدت أدراجي تلبية لتنبيه ورغبة العم أمحمد قاصدا الجهة الخلفية لمكان المبيت (لمراح) وجمعت بعض العيدان ، أشعلت النار وأقمتُ كؤوس شاي على السريع ، عمي بدا مستعجلا استئنافَ الرحلة قبل طلوع الشمس ، فشمس مغيب الأمس باحت بكامل أسرارها وهي كقطعة نقد صغيرة ، تلكم نشرة إنذارية تشي بشدة الحر عند أهل البدو ...أكملنا الشاي وجمعنا المتاع ، وكالعادة أشار علي العم أمحمد باتباع الجهة الجنوبية ميمما الوجه شطر ثقب "أجريفية" ، كانت حسب التعليمات هي نقطة الميعاد لنقيلَ ونسقيَ الخِلْفَ . استأنفتُ المسير حاملا عصايَ بيسراي وراء النوق الخِلفِ ، وفق ما أُشيرَ به عليّ ، وما إن قطعت قرابة اِثنا عشر كيلومترا على ذمة gps حتى تراءت لي زاوية موسى ولد عبد الله بمنطقة "أمسيد موسى" ، وقعت عيناي على السيارة رُكِنت فوق ربوة شرق الزاوية ، فجعلتُ خط المسير نحوها حتى وصلت لأجدَ العم أمحمد ينتظرني بكؤوس شاي أعدها لي علها تخفف عبء المسير ، وتكون وقتا مستقطعا لالتقاط الأنفاس ، فالساعة أشارت التاسعة صباحا والمسافة قد تصل أحد عشر كلومترا متبقية ، جلست أشرب قدحَ "لمريس" دافعا ضريبة إهمال حليب البارحة ، وكأس شاي يصنفه أهل الاختصاص بـ "المُحَمّي" كناية عن ضعف الجودة ، فأمحمد كما هو مألوف ليس "قيَّامًا" محترفا ....شربتُ الشايَ مُجبَرًا ونظراتهُ ترقب ردة فعلي فقال ممازحا: "اشربْ ذاكْ زيت دَلْوِينْ" ، كان يريد الترويح عني قليلا ، فتعب "الگوْطْرَة" شاق ومضنٍ ولا حرج في فواصل هزلية .. ...أكملنا الشاي وتأبطت مجددا عصايَ مستأنفا الرحلة ، لا مجال لتبديد الوقت ، كانت الخِلْفُ قد استَتَبْنَ المسير فجعلتُهنَّ عن يميني وحاولت محاذاتهن قليلا كي أتَجَنَّبَ مطبّاتٍ رمليةً "دَهْسْ" في عمق "حفرة أجريفية " شرقا كثيرا ما تُجْهِدُ أقوى سيارات الدفع الرباعي لصعوبة قطعها ، بدأتْ درجة الحرارة تزداد ارتفاعا شيئا فشيئا ، والعم أمحمد سيحاول تجنب "الدّهْسْ" بالمرور غربا ، سيارته المتهالكة لم تعد تستحمل هذا النوع من المطبات ، وبالتالي فالحافة الغربية "السّنْ الساحلية" هي المسلك الأنجع لتفادي شِعابٍ تزداد صعوبة في القطع كلما اشتدّ الحر ، قطعتُ مسافةً قاربت السبعَ كيلومترات تحت حرارة شمسٍ مفرطة ، و لولا لثامُ "النيلة" الذي لففته حول رأسي لبقِيتُ "أسْهَمْ ضياعة" في حفرة تعصفُ بكل عابر سبيلٍ غير مُحتاطٍ ، وتنقضُ عهد الأمان كلما التحفت رياحَ "الشرگية" ... عادَ هاجِسُ الخوفِ إليّ مرة أخرى حذرَ القضاءِ عطشًا قبل مجيء العم أمحمد الذي يبدو أنه لن يستطيع المغامرة بسيارته المهترئة ، لذا سأبقى وحيدا أصارعُ هذه الحفرة الصعبة العبور ، سيطرتُ على خيفَتِي التي أوجستُ ، لأن أكبر تحدٍّ قد يصادفه المرء في الحياة هو خوفه النهاياتِ المأساوية ، فعندما يتغلب على الخوف سيكون ذاك إيذانا ببداية جديدة . أجل قررت مقاومة المسير متسلحا بثقتي في الله فمن توكل على الله فسيكفيه شرّ ما يخاف ، ومما زادني سيطرة على نذير الشؤم طريقة السير التي اتبعتها الخِلْفُ إذ كُنّ على نفس الخط يسرنَ بشكل سريع و مستقيم "مَسْتَوْرْدَاتْ" مما ساعد في رفع وتيرة السير.. من اللطف الإلهي أثناء المسير أنّي وجدتُ رجلا من "لخوالْ المتعدلين أهل آگْوَيْرِيرْ" يسوق ثلاثَ نوقٍ "خِلْفتانِ و صيدح" نحو أجريفية كان قد علم برحلتنا مسبقا حسب الأخبار التي وردته ، والغريب في الأمر أن الأخبار هنا تروج بسرعة البرق في تحدٍّ لأحدث وسائل الاتصال التكنولوجية ، لا صحون هوائية ولا هواتف ولا انترنيت ، يُعتمدٌ فيها على قوة الاستقبال ونباهة التحليل وسرعة الحكم ، إنه الانسانُ البدوي الذي عادة ما يرمى بالتخلف عن ركب الحداثة . كان الخالُ "يحفظو" ذو الستة عقود صاحب وجهٍ سمحٍ و وقارٍ جلِيٍّ يريد منا أن نصطحبَ النوقَ قصد إيصالهن لخيمة أخرى من لخوال تنتجع "حفرة أم ركبة" جنوبا على بُعدِ ثمانين كيلومترا...بعد التحية والسلام سقاني ماءً باردا بطعم القارِ (الگطران) من قِربةٍ لديهِ وطلب مني إبلاغ العم أمحمد بالأمر فوعدتُهُ بذلك ثم استأنفتُ المسير في سباقٍ مع الزمن فـ "أجريفية" لاحَ "أزْبارْهَا" في الأفق وأضحت في متناول "المقيل". #يتبع
محمد مولود الأحمدي إعلامي، وباحث في التراث الحساني