انه الصّباح الذي يأتي قبل أوانه، مع نسائم الفجر البريئة، يبدأ البحّارة والمرتبطين بهذه المهنة التَّوافد على الشاطئ، ومع انبلاج فجرانواذيب وقليل من ضوء النهار يكون المشهد قد بدأ في الاكتمال، قوارب الصيد التقليدي تملأ المكان وتستعد للإبحار، ربما يكون هذا أكبر موكب إبحار على طول الشواطئ
الموريتانية، إنه مشهد افتتاح الصّيد بعد توقيفه، إنه الحجُّ إلى الأخطبوط الموريتاني!
فسيولوجيا للأخطبوط ثمانية أذرع، لا أزيد ولا أقل، لكنه في واقع أهل الصّيد والمرتبطين بهذه المهنة له أكثر من ذراع!
إنه كائن المفارقات العجيبة؛ فهو من أكثر الأنواع البحرية التي تعاني فرط استغلال حسب الدراسات العلمية، وفي نفس الوقت هو الكائن البحري الأكثر تصديرا وعائدات مادية من بين جميع الأنواع البحرية، ففي دراسة إحصائية للشركة الموريتانية لتسويق الأسماك SMCP في الفترة من 1992 إلى 2015 شكلت العائدات المادية لهذا الكائن البحري لوحده - تقريبا- حوالي تريليون من الأوقية؛ أي ميزانية الدولة الموريتانية في أكبر أرقامها لسنتين وزيادة!
إنه الكائن البحري الأكثر استهدافا بالصّيد، فكل الأسطول الوطني للصّيد يستهدفه، من صيد صناعي وتقليدي وشاطئي، وحتى الأساطيل الأجنبية كانت تستهدفه بالصّيد حتى 2012 إذ تم منع صيده من طرف الأساطيل الأجنبية وأصبح خالصا للموريتانيين.
الأخطبوط من بين الكائنات البحرية الألذّ لحما والأشهى طعما، لكن ليس للموريتانيين حظ من ذلك، نتيجة العادات الغذائية العجيبة، وهي عادات تنظر إلى الشكل الخارجي للكائن البحري أكثر من أي شيء آخر! وقد عَلِمنا أنّ الأخطبوط لم يُؤتَ حظّا من جمال الشكل. إنه الكائن الأكثر غموضا في تنقلاته وديناميكية مخزونه، الكائن الذي نُسجت حوله الأساطير وأفلام السينما وقدمته على أنه خارق الذكاء والقوة ولكنه في الواقع كائن رخو ليّن لطيف.
قليل من بيولوجيا الأخطبوط :
الأخطبوط المعروف محليا ب "طاكو" أو "بولب" أحد أهم الأحياء البحرية القاعية في الشواطئ الموريتانية، ينتمي الأخطبوط Octopus vulgaris إلى مجموعة اللافقاريات، شعبة الرخويات، وإلى صفّ رأسيات الأرجل، حيث يتصل الرأس مباشرة بالأرجل دون باقي الجسم (الصدر والبطن) وإلى عائلة أوكتوبوديداي المُبجّلة.
يتميز الأخطبوط بدورة حياة قصيرة، إذ يتراوح عمره من سنة إلى سنة ونصف وينمو بشكل سريع؛ بمعدل 11 غرام في اليوم، وتعتبر الأفراد غير البالغة تلك التي يقل وزنها عن 500 غرام حيث يُحرّم صيدها.
يعرف عن الأخطبوط بأنه يتيم المولد ! حيث يقوم الذكر بوضع الحيوانات المنوية في كيس لدى الأنثى ليموت بعد ذلك بعدة أشهر، ويتم تلقيح البيض داخل الأنثى وأثناء فترة حضانة البيض تمتنع الأم عن الأكل والافتراس وتتفرغ لحراسة ومراقبة بيضها حتى أنها تقوم بدفع التيار المائي نحو البيض لتأمين وصول الأكسجين إليه حتى تخرج الصغار ! تضع الأنثى حوالي 400 ألف بيضة خلال حياتها.
بتعبير آخر؛ كل الخطابيط في بحار الدنيا يتيمة الأم وبالتالي فهي لا تُعلّمهم ولا تُلقّنهم ما اكتسبته من التّجارب، إنّ في ذلك لآية!
صيد الأخطبوط:
بدأ استغلال الأخطبوط في موريتانيا في الستينيات من القرن الماضي في المنطقة الشمالية ليشهد بعد ذلك تطورا كبيرا، يُصطاد الأخطبوط أساسا بواسطة القدور البلاستيكية pots à poulpe وكذا شباك الجرّ القاعي، كما يُصطاد ثانويا مع المصايد الأخرى، تعاني هذه الثروة القاعية المهمة من فرط استغلال منذ عشرات السنين حسب الدراسات التي يجريها المعهد الموريتاني لبحوث المحيطات والصيد IMROP لذلك اعتمدت الوزارة المعنية بناء على تلك الدراسات ما يعرف ب "توقيف الصيد"arrêt de pêche أو الراحة البيولوجية، والتي تستهدف حماية هذه الثروة المهددة عن طريق توقيف صيدها في فترتين من السنة تقابلان فترات التكاثر ونمو الأفراد غير البالغة.
تشير آخر دراسات المعهد الموريتاني لبحوث المحيطات والصيد إلى تحسن في ثروة الأخطبوط، إذ تؤكد المؤشرات المتعلقة بالكتلة الحية، وكذا بالمردودية وأحجام الأفراد المُصطادة تعافي مخزون الأخطبوط ، وإعادة بناء تدريجي للمخزون منذ 2006 ، لكن هذا التحسن يظل دون المأمول إذ تبقى الكميات التي يتم صيدها سنويا تفوق قدرة المخزون على البقاء والتجدد، ويمكن اعتبار هذا التعافي النسبي مؤشرا على نجاعة وأهميات الإجراءات الاستصلاحية لحماية هذه الثروة، والتي من أهمها توقيف الصيد فترتين في السنة وكذا استثناء الأساطيل الأجنبية من صيد الأخطبوط.
قليل من الاقتصاد:
تُعتبر اليابان واسبانيا من أهم الدول التي تُصدّرُ إليها هذه الثروة، حيث يعتبر الأخطبوط من الوجبات الشائعة والمفضلة لدى تلك الشعوب نظرا لطعمه اللذيذ وقيمته الغذائية المرتفعة وغناه بفيتامين B12 و B3، في إحصائية للشركة الموريتانية لتسويق الأسماك كان الحجم الكلي لصادرات رأسيات القدم التي ينتمي إليها الأخطبوط من 1992 إلى 2015 حوالي 778 ألف طن، يشكل منها الأخطبوط لوحده حوالي 80%.
في نفس هذه الفترة كانت مداخيل جميع الأنواع البحرية التي تم تصدريها بواسطة الشركة الموريتانية لتسويق الأسماك حوالي 4.24 مليار دولار، 88% من تلك القيمة جاءت من رأسيات القدم، شكل الأخطبوط لوحده 3.23 مليار دولار، أي ما نسبته 76% من كل الصّادرات السمكية في موريتانيا في هذه الفترة.
ذلكم قليل من خبر الأخطبوط الموريتاني، خلاصته أن ليس للأخطبوط ثمانية أذرع فحسب، بل له أكثر من ذلك، أذرع تضرب بسهم في السّياسة والاقتصاد والاجتماع والعلم ... فلا يكاد يسلم منه مجال! عليه عُلّقت الآمال وعاش الرجال وبنوا ثرواتهم، حطّم آمال آخرين وخيب التوقعات في أكثر من مرة، لكن ذلك الكائن الرّخوي الجسم كان وسيبقى أحد أهم وأشهر الكائنات البحرية في موريتانيا، أولاها بالشفقة من كثافة جهد الصيد، باستمرار وتعزيز إجراءات الحماية، وإن جاز شكرُ كائن بحري موريتاني –وهذا شيء قد يكون بلا معنى، وقد يكون كل المعنى- فهو أولاها بالشكر، شكرا أيها الأخطبوط فإن من ورائك أرزاق الناس وحياتهم، من ورائك آلاف البّحارة وآخرين من خلفهم وأنت صابر "محتسب" تعاني كثافة جهد الصيد وتنوعه.