" ها أنا أعود للمرة الثانية في الحادي عشر فبراير تاريخ رحيل شقيقي محمد يحظيه من هذه الدنيا الفانية القصيرة إلى مثواه الأخير إلى روضة من رياض الجنة بإذن الله جنة عرضها السماء والأرض أعدت للمتقين، مساهمة متواضعة مني تأبينا وتكريما لذلك الجيل المؤسس للدولة والمؤمن بمفهومها المجرد والبعيد عن التملق والشخصنة والنفاق السياسي لمن هو في الحكم والتراجع عنه 180 درجة يوم الإطاحة به أو تخليه عن السلطة في حالات نادرة وبعد كل المحاولات للبقاء فيها وكأنه الشخص الوحيد الذي يصلح لهذا المنصب لو أنه كان بعيدا منه ولا يحلم به قطعا، قبل الوصول إليه وبالطرق المعهودة في عالمنا الثالث الشيء الذي جعلنا شعوب فقيرة في أوطان غنية بالمناظر الطبيعية الخلابة والكنوز الباطنية كما هو شأننا لأننا لسنا استثناء.
واسمحوا لي أن أركز على أخي كمثال حي لذلك الجيل المؤسس بصفتي أحد المقربين إليه وبعد أن أصبت بإحباط شديد بعد وفاته حين لم أجد في تلك الوفود البشرية التي جاءت من كل حدب وصوب لتقدم لأسرة الفقيد التعزية لم أجد من بينهم لا وزير إعلام واحد، لا مدير إذاعة عمومية، لا مديرا للجريدة، لا مديرا للتلفزة وكأنه لم يكن هو هو، ألم يكن أخي أحد الركائز التي بنيت عليها الإذاعة الوطنية أيام تأسيسها في الستينات من القرن الماضي ليتدرج فيها وبسرعة فائقة والشكر لله ليصل إلى مدير البرامج والمدير العام للإذاعة وكالة في حالة غياب الفرنسي الذي كان يشغل هذا المنصب، ألم يكن أخي هو مؤسس جريدة الأخبار وانواكشوط إنفو بالفرنسية لتصبح بعد ذلك “الشعب”، ألم يكن هو من جمع بين الأختين المطبعة الوطنية والجريدة لتصبح الشركة الموريتانية للصحافة والنشر (SMPE) ولأول مرة نتيجة إصراره وقوة شخصيته الحمد لله والشكر له، ولكي لا يظل عمل الطباعة مُعطِّلا للعمل التحريري والصحفي، ألم يكن أول مدير عام للتلفزة الوطنية أيام انفصالها عن الإذاعة ألم يكن ألم يكن… وأترك للقارئ الكريم تصور غياب وزارته الوصية وكل إداراتها عن تقديم العزاء لأسرة هذه القامة الصحافية ولكي لا يقال بأني أنظر بنظري الشخصي المعارض ولو أنني لست منطويا تحت أي حزب لا مواليا ولا معارضا فأنتهز هذه الفرصة لأشيد بوزيرة التنمية الريفية وطاقمها ممثلا في الأمين العام ومدرائه الذين جاءونا في أول أيام التعزية لتقديم العزاء لابن خالي المرحوم الذي وافاه الأجل المحتوم في هذه الأيام القليلة فلهم الشكر والتقدير ولكل أولئك الذين جاءوا من رؤساء أحزاب معارضة ونقدر للجميع عناءه ولعلها الحملة الرئاسية، فلهم ذلك ولا غضاضة في الأمر لكن الغضاضة والتذمر على أولئك الذين لم يقدموا تعازيهم بصفتهم الرسمية لأخي الفقيد رحمه الله وأدخله فسيح جناته وقطعا لا يفيده مجيئهم كما نحن لكن العار على الدولة ألا تعتني بمن ضحوا من أجل هذا البلد وهم كثر.
ولعلي ابتعدت قليلا عن سيرة أخي فأعذروني فالمصاب جلل وتربطنا علاقات حميمة لأنني تربيت في حضنه أيام مراهقتي وحتى الكبر، وأعرف فيه الكثير والكثير كما هو الحال لمن عرفه من قريب أو بعيد إنه أبي بأبوته، أمي بحنانه وأخي بأخوته والآن أسرد بعض سيرته الذاتية تحت عناوين متفرقة:
- المنشأ والدراسة الابتدائية :
ولد محمد يحظيه ولد العاقب حوالي 1946 بتجكجة وبدأ دراسته الابتدائية بعد شد وجذب بين والدتنا التي كانت ترفض دخوله المدرسة الفرنسية بوصفها مدرسة تبشيرية للمستعمر وتمسكا بالدين الحنيف ومقاومة للمستعمر كما هو حال كل الأمهات في تلك الحقبة من الزمن لكن المستعمر الفرنسي بقوته وعدله ولو كان كافرا أصر على دخول أخي المدرسة ويضغط على والدي الذي قد أدخل حسني ولد سيدي ولد ديدي (الوزير السابق والغني عن التعريف) نتيجة لنفس الضغوط وبوصفه ضامنا لاركيزة أهل عمار ولد عبدي سنتين أو ثلاثة قبل دخول أخي ليس تحيزا لأخي ولكن اعتبارا للفارق العمري الذي يفصل بين الاثنين وليس تحيزا كما قيل لي أنه جاء في أحد المذكرات فالرجاء الدقة والأمانة في رصد الأحداث وكتابتها كما كان سيفعل أخي لو أراد له الله أن يكتب مذكراته والتي كانت ستتوفر على الكثير من الملعومات التاريخية الصادقة بحكم قربه من دوائر النفوذ وعلاقته الشخصية بأب هذه الأمة وابنها البار الأستاذ المختار ولد داداه رحم الله الجميع وأدخلهم فسيح جناته وإنا لله وإنا إليه راجعون، لكن شاء الله ما شاء وقدر ما قدر وأصيب أخي في سنواته الأخيرة بجلطة دماغية جعلته يفقد أسلوبه الجميل وقلمه النابض ونبرته الحلوة والرجولية فارجعوا إلى تسجيلات الإذاعة وستنصفوني لا محالة، ومقالاته الجميلة في جريدة “الشعب” إن لم تكن أتلفت أوضاعت.
ولعلي أمر مر الكرام على فترة قصيرة نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن المنصرف حيث أخذ أخي إجازة ‘’disponibilité’’ لمدة سنتين قابلة للتجديد مرة واحدة ليشتغل مع ابن عمه رجل الأعمال المعروف أطال الله في عمره الأخ حاب ولد محمد فال وبرتبة مدير عام لشركة الزراعة ‘’SOGEA’’ المملوكة آنذاك من رجل الأعمال حاب والغني عن التعريف لكن ذلك التزاوج لم يطل كثيرا لتصبح الشركة ملكا لأخي مقابل منزله الأول في تفرغ زينه والموجود أمام سفارة الروس حاليا وليضيف لاسم الشركة حرف ‘’C’’بالفرنسية والحرف المضاف له دلالة كبيرة لتصبح الشركة الموريتانية للتجارة والزراعة ‘’SOGECA’’ وتأتيه الدنيا على مربط فرس أو كما يقال ولعلي استشهد بفاتورة وجدتها في حقيبته ونحن نحضر أحد أسفارنا إلى باريس من أجل علاج أخي فاتورة تبلغ 40 مليون أوقية قديمة مسددة له من طرف ‘’CSA’’ .
لكن الرجل ظل متواضعا بسيطا لم تغره تلك الدراهم كما فعلت للكثير منا كلما حصل أحدنا على معاشه فما فوق تخيل له أنه أصبح آخر وطغى وتخلى عن أصدقائه القدماء ممن عاشروه في السراء والضراء وتنكر لهم وخيل إليه بأنه أصبح أحدا آخر وتصديقا للسورة الكريمة أول سورة نزلت على الصادق الأمين وهو في غار حراء في مكة المكرمة السورة 96 الآيتين 5 و 6 “كلا إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغنى” متناسية الآية الموالية “إن إلى ربك الرجعى” صدق الله العظيم وبلغ رسوله الكريم وإنا على ذلك من الشاهدين.
لكن أخي بقي بعيدا من هذه الأوصاف الطغيانية ولله الحمد بقي الرجل متواضعا بسيطا متماسكا واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون أسألوا عنه كل من يعرفه من قريب أو بعيد وستجدونني إن شاء الله صادقا في كل ما عزيت عنه وليس تكريما للميت كما يقال ولكنه حقيقة ثابتة ومشرقة كشروق الشمس وظهور القمر في الليلة الظلماء.
هكذا الدنيا تختار خيارنا وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولعلكم تسألون من أين لأخي أن يحصل على منزل في تفرغ زينه في السبعينات من القرن الماضي وأظنه المنزل الثاني الذي بني بعد منزل أخيه وصديقه رفيق دربه وخاله العزيز الوزير السابق خطري ولد جدو والغني عن التعريف، ولأجيبكم بسهولة فائقة هو أنه حصل على المنزل المذكور بسلفة مقابل علاوته الوظيفية (indemnité de fonction) ومصادق له عليها من طرف مجلس الإدارة كأعلى سلطة تقديرية وأحيلكم إلى المصطفى ولد محمدو وهو حي يرزق لله الحمد ليجيبكم بصفته مفتشا عاما للدولة في تلك الفترة ولعله يجيبكم بما أجاب به ابن عمنا ووالدنا ومنبع عزتنا المرحوم خطري ولد دحود الذي كانت له الشجاعة في أن يترشح للرئاسيات ضد المختار ولد داداه في تلك الحقبة من الزمن وهو داخل السجن، رحم الله الجميع وأدخلهم فسيح جناته وجوابه لخطري هو أنه لم يجد مثل أخي خلال تقلده لهذا المنصب التفتيشي في الدقة والشفافية وقوة الشخصية ولا غرو في ذلك فمن تربى على الصدق والأمانة والترفع عن الرذيلة (فكل إناء بالذي فيه يرشح).
وتجسيدا لكلامي فقد قيل لي أنه قد أرجع شوكتين (2 fourchettes) لجريدة الشعب وذلك في السبعينات وشاء القدر على أن يرد منشفتين (2 serviettes) و جماعة كهربائية (Multiprise) للتلفزة الموريتانية في التسعينات وهو يتولى منصب الإدارتين الأولى والثانية وفي حقبة من الزمن متباعدة. تلك هي الدقة والتورع والأمانة فالرجل يضع أمامه ميزان الآخرة ذلك الميزان الدقيق والحساس الذي لا يترك مثقال ذرة إلا أحصاها.
فالويل كل الويل لمن غرته هذه الحياة الزائلة عن الآخرة ولم ينتبه حتى أتاه الأجل المحتوم فهناك لا توجد منطقة وسطى بل جنة نعيم وخلود لا منقطعة أو نار وعذاب متجدد الجلود ليذوق صاحبه العذاب أعاذنا الله وإياكم من النار وسلاسلها، وأذكر أنه في أحد الأيام من السبعينات وأنا واقف أمام منزل أخي إذا بالسيدة الأولى مريم داداه وهي راجعة في سيارتها من إحدى جولاتها وهي تتنزه لتصادف أخي وهو راجع من مكتبه فتتوقف ويتبادلا التحية ويدخلها منزله المذكور آنفا وأنا أتابع المشهد منبهرا بالسيدة الأولى وعند وداعه لها يحملها رسالة شفهية مفادها أن الرئيس المختار لم “يكشوه” وهو جاره في المسافة في تلك الفترة لأن بنايات السفارات لم تكن موجودة آنذاك وكما عوهد لدى الشناقطة من كرم الضيافة وعرفوا به على مر التاريخ وهي العادة التي بدأت تتلاشى وتنحصر إن وجدت على ملاك المنازل بينهم وهو ما جعل التراحم يتراجع بتراجع التواد (توادوا تحابوا) و (ارحم من في الأرض يرحك من في السماء ) ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين آخى بين المهاجرين والأنصار أيام قدومه إلى المدينة، فالتآخي لا يصلح إلا بالعدالة والمؤاخاة بين الشعب بدون تمييز ولا يكون بتغيير اسم شارع هنا أو هناك.
كان ذلك مثالا حيا على نزاهة هذا الجيل المؤسس ولأن الرئيس المختار نزيها فلا بد للآخرين أن يتبعوه في سلوكه وتصرفاته والرعية على قلب راعيها.
رحم الله الجميع وأدخله فسيح جناته.
ولنا أن نحلم بأن يتولى أمورنا خيارنا ونجد من يسير أمورنا تسييرا شفافا صالحا فليس من المعقول أن ينعم بلدنا بهذا الاستقرار وتكون لنا هذه الثروات المتنوعة والمتجددة من صيد وحديد وذهب وبترول وغاز ومناظر خلابة جالبة للسائحين ونكون شعبا فقيرا لا يتجاوز 4 ملايين نسمة كأحسن تقدير بكل أصنافه وتنوعاته العرقية وشبابه عاطل عن العمل في الداخل ومنقلب على أمره ومشرد في الخارج، الله يا الله…
أما السؤال المطروح فإلى متى سيظل التكريم والتأبين حكرا على كبار الجيش وأبنائهم ولا غضاضة في أن يكرم من يستحق التكريم من الجيش وأبنائهم ولكن الغضاضة والتذمر في أن يظل حكرا عليهم فهذا ليس عادلا والبلدان تبنى على الكفر لكنها لا تبنى على الظلم.
والسؤال الثاني إلى متى سيظل الحكم حكرا على من لبس البذلة العسكرية والتي تشرفنا كلنا ونعتز بها ونحترمها لأنها الرمز الأخير والمتبقي من رموزنا التي عرفناها وعرفها أجدادنا وصار الكثير منا ضحية للدفاع عنها، فأين العلم الأخضر والأصفر وهو يرفرف في السماء أيام الاستقلال في أوائل الستينات؟ أين النشيد الوطني؟ أي الجمعية الوطنية؟ أين العملة الوطنية بأوراقها النقدية فئة 100 أوقية و200 أوقية؟ أم أننا لا نستحق الأوراق وعلينا بالاكتفاء بالنحاس؟ أين و أين…؟
ألا حان لنا أن نجرب ولو لفترة قصيرة تسيير أحد أبناء هذا البلد من المدنيين وهم كثر لنرى كيف سيتفاعل معنا هل سيكون غليظا أم متواضعا أمينا أم سارقا عادلا أم غاشما؟ فإن كان صالحا تركناه وإلا فباستطاعتنا التخلص منه في أول محطة وبسهولة، وبالأصوات فقط لأنه لا يمتلك السلاح ولا الدبابة دبابة دبابة دبابة…
وعلينا وعلى الجميع ونحن على أبواب انتخابات رئاسية أن نتحرى الدقة والأمانة في التصويت وأن لا نصوت لمن لا تتوفر فيه شروط التكليف لا التشريف وأن نبتعد عن كل منافق وآية المنافق ثلاث (إذا حدث كذب وإذا ائتمن خان وخاصم فجر) وأن تظل هذه الشروط والصفات أمام أعيننا بغض النظر عن اللون والعرق.
والله ولي التوفيق وهو القادر على ذلك.
وإلى المرة القادمة إن شاء الله لكم مني التحية والتقدير" .
تأبين بقلم الشيخ ولد العاقـــب