-موقع الاستقلال- كشف رجل الأعمال المقرب اجتماعيا من الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز، بعض الكواليس التي كانت وراء انقلاب 2008، على المدني سيدي ولد الشيخ عبد الله، مبينا الأسباب التي دفعت بالنظام إلى تبني شعار "تجديد الطبقة السياسية".
وانتقد رجل الأعمال أعزيزي ولد المامي بشدة واقع القضاء الذي وصفوه بالفاضح، وجاء في نص المقال الذي يأتي في ظل الأزمة السياسية القائمة بين النظام والشيوخ من جهة والنظام وبعض رجال الأعمال.
وأضاف في وثيقة كشف عنها اليوم قائلا: في هذا الإطار قلت له أن حل جهاز الأمن الرئاسي قد يكون خطوة هامة في هذا الاتجاه، فكل الأنظار موجهة إليه والكثيرون يعتقدون أنه من أهم مراكز السلطة و مركز صناعة القرار في البلد ، يقال ان من راقب العواقب لم يندم و التدبير قبل الفعل يؤمن من المفاجئات.
وأكد أنه أخبر ولد الشيخ عبد الله بالحرف الواحد أن رئيس الجهاز رجل مهم قدم لك دعما هاما وساعد في نجاحك خاصة بين الشوطين ، لماذا لا تقم بتعيينه على منصب كبير داخل المؤسسة العسكرية، و ليكن بعيدا عنك.
وقال إن رئيس جهاز الأمن الرئاسي حينها محمد ولد عبد العزيز ينسج الخيوط و يشدها نحوه ويعيد ترتيب الأوراق وبدا الرئيس سيدي رئيسا منقوص الصلاحيات ، وطبعا فإن هذه الوضعية لابد أن تؤدي إلى خلافات ما لبثت أن بدأت تطفو على السطح، وقد استدرج سيدي بطريقة لا تخلو من دهاء حين منح رتبة جنرال لقائد الأمن الرئاسي وبهذا سجل هدفين ضد نفسه.
نص الوثيقة:
بسم الله الرحمن الرحيم
توطــئة:
عن أبي ذر رضي الله عنه قال « قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : قل الحق ولو كان مراً » صححه إبن حبان
لم أكن أبدا أخطط للعودة للكتابة في الشأن العام بل إني آثرت التفرغ لأمور خاصة، وكنت أرى إنه إذا كان علي أن أكتب فإن ذلك سيكون في غير الأمور السياسية. فحينما كنت مهتما بالكتابة في الشأن العام لم اتردد بل ابديت رأيي وقدمت تقييمي لأمور البلاد من موقع الشاهد على الكثير من الأحداث والعارف بتفاصيل البلاد والمعايش لنخبتها خلال ما مضى من عمر دولتنا الفتية.
لقد ربطتني علاقات وطيدة تقريبا مع جل الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم البلاد.
وإذا كنت قد قررت اليوم الإدلاء بدلوي فيما هو متداول فإن ذلك يأتي تحت تأثير الأحداث المتسارعة التي باتت تطرح تساؤلات كثيرة ومشروعة حول مآلات البلاد. فلا شك أن بلادنا اليوم في مفترق طرق وهي تجتاز مقطعا حرجا سيكون له ما بعده.
إنها مرحلة تتطلب تضافر الجهود والوعي والتكاتف لتجنيب البلاد الانزلاق نحو متاهات مظلمة.
ذلك هو الدافع الوحيد من وراء كتابة هذا المقال الذي سيركز على الفترة الأخيرة التي لم تشملها كتاباتي الماضية والذي أرجوه موضوعيا ووسطيا يبين للنظام ما له وما عليه.، و لا مجال لأي تفسيرات أخرى ولا لأي حسابات شخصية أو سياسية فالمقام أجل.
التأسيس:
لقد تعاقبت عدة أنظمة على حكم هذه البلاد بدءا بالرئيس المؤسس المختار ولد داداه الذي آمن بهذا الوطن وسعى إلى إخراجه من العدم إلى الوجود متسلحا بالتصميم والإرادة والاعتماد على النفس. لقد استطاع مدعوما بصفوة من أبناء البلاد الوطنيين إرساء أركان الدولة الجديدة في مشهد يشبه الحلم.
كان المختار نموذجيا في كل شيء ، كان مدرسة في المثل والأخلاق بسيطا حلو المراس لا يلين عندما يتعلق الامر بالوطنية ، بنى سمعة جيدة للبلاد وفرض وجودها أولا ثم احترامها فيما بعد وأرسى قواعد صلبة لتنميتها.
ثم كانت حرب ضروس لا تبقي ولا تذر قوضت جل المكاسب التي تم الحصول عليها بشق الأنفس وأدت إلى رحيله عن السلطة فتوقف ذلك الحلم الجميل. ترك المختار رحمه الله ذكرا باقيا ، يذكره الكل اليوم بحنين ووقار كبيرين.
الجمهورية الثانية:
بعد فترة اضطراب و عدم استقرار ميزت بداية الثمانينات جاء الرئيس معاوية على اثر انقلاب ابيض استبشر به جل الموريتانيين لما عرفته تلك الحقبة من تضييق على الحريات الفردية و الجماعية ، بنى معاوية نظاما للحكم مكنه من البقاء زهاء 20 سنة. يصنف معاوية على أنه رجل سلطة وطد أركان الدولة وهيبتها وضمن لحكمه فترة استقرار مديدة.
عندما تسلم مقاليد السلطة قضى زهاء عامين وهو يستشير ويستمع ويحلل ليخرج بتصور لقيادة البلاد. ورغم أنه كان ذكيا وصاحب مشروع حداثي إلا أنه كان متأنياً في قراراته. واجه خلال فترة حكمه الطويلة عواصف كثيرة داخلية وخارجية تعامل معها بمزيج من اللين والصلابة.
وخرج من كل أزماته بأقل كلفة لحكمه و للبلاد. الكل يعرفه كتوما منطويا لكنه كان أيضا صادقا عادلا لمن يعرفه عن قرب. و قد ساهم في كل ذلك اعتماده على الصندوق الأسود الدكتور لوليد ولد وداد ،أمين سره الذي عمل معه زهاء ثلاثة عقود و الذي كان رجل دولة حقا ،كان أيضا خلوقا سديد الرأي حافظا للعهد.
ونتيجة لمركزية النظام الشديدة ولتأخر الإصلاحات الداخلية سار النظام ببطء لكن بشكل مؤكد نحو نهايته، فكانت نهاية حكمه وتلك سنة الله في كونه. ويكاد يوجد إجماع على أنه:
خدم بلده مما أوتي من قدرات وسعى لتطوير البلاد وانحاز للطبقات الهشة.
تعامل بحزم كبير مع دعاة التفرقة ودافع بقوة عن هوية البلاد العربية.
خرج من السلطة صفر اليدين فلم يستغل السلطة أبدا لجمع المال ولم ينسج شراكات مع مستثمرين وليست له عقارات ولا حسابات مصرفية خارجية ولا داخلية.
يذكرني هذا بما كتبه المختار في مذكراته حين قال انه خرج من السلطة مرتاح البال لأنه كان عند خروجه منها أقرب للفقر منه إلى الغنى.
كان بإمكاني أن أقول الكثير في وطنية معاوية لأنني تعرفت عليه منذ 1963 حين كان مرافقا للرئيس وكان ذلك عن طريق اسويدات ولد وداد والمصطفى محمد السالك وبقيت على صلة دائمة به منذ ذلك العهد وتوطدت صداقتنا مع مرور الزمن بما في ذلك فترته في الحكم وحتى خروجه منه، ولازلت طبعا أكن له احتراما كبيرا.
مطلب التغيير:
هكذا إذا ومع نهاية فترة معاوية تم انتقال سلس للسلطة وتقبل الموريتانيون التغيير ايضا بما فيهم أنصار الرئيس معاوية أو من يوصفون كذلك بل واستبشروا خيرا وأملا في فتح صفحة جديدة لكافة الموريتانيين.
والحقيقة أن وجود المرحوم أعلي ولد محمد فال على رأس المجلس العسكري الجديد شجع الموريتانيين على طي الصفحة ، وكان حاسما في إقناع الكثيرين بدعم التغيير الجديد حيث اعتبروه ضمانة ضد الإنحراف وتصفية الحسابات.
بدأت البلاد كأنها استقلت من جديد وحصل إجماع لا نظير له وتم فتح آمال عريضة لتنمية البلاد، قاد المرحوم أعلي بحكمته ورزانته مرحلة انتقالية جديدة وكانت ناجحة بكافة المقاييس .
توالت الإصلاحات الاقتصادية و المالية وتضاعفت الأجور كل ذلك في زمن قياسي لم يزد على 20 شهرا.
فعلى سبيل المثال لا الحصر وصل معدل النمو 11% سنة 2006 وكان الفائض 36% من الناتج المحلي ووصل فائض ميزان المدفوعات 322 مليون دولار وكان مستوى التضخم في حدود 6% وتم الحصول على 200 مليار أوقية من العون الخارجي خلال 14 شهرا.
في نهاية هذه الفترة المشرقة تم تنظيم انتخابات توافقية نزيهة بشهادة الكل بما فيهم المراقبين الدوليين وتسلم مقاليد الأمور رئيس منتخب وتوارى العسكر عن الأنظار في مشهد يشبه الحلم أيضا وبدأت كتابة مرحلة جديدة من تاريخ البلاد.
جمر تحت الرماد:
و ترشح سيدي و طبعا استبشرت خيرا بترشيحه ودعمته و نجح فنحن أصدقاء منذ 1968.
و تسلم سيدي السلطة وسط أمل كبير بطي الصفحة العسكرية وبتوافق غير مسبوق من الموريتانيين وإشادة دولية عامة.
لم يكن الرئيس سيدي سياسيا متمرسا بالمفهوم المتداول، كان بعيدا عن التجاذبات يتمتع بسمعة طيبة وعلاقات واسعة ، يعرفه الكل نزيها مترفعا عن شبه المحسوبية والثراء غير المبرر أما خبرته وتجربته فكانتا معروفتين أيضا.
التقينا فور تنصيبه وقدمت له التهانئ واتفقنا على أن نظل على اتصال وشرحت له رؤيتي وكنا متفقين طبعا.
عرض علي الرئيس سيدي تعيين أحمد باب وزيرا ولم أر ذلك مناسبا وشرحت له الأسباب ، وبعد إلحاحه ذكرت له أن أحمد باب اختار القطاع الخاص وأنه قد حسم أمره منذ زمن، وأنه في منتصف الطريق ، حقق بعض النتائج لنفسه ولوطنه وعليه مواصلتها وأرى من الصعوبة بمكان التوفيق بين النشاطات الخاصة والمسؤوليات العمومية كما أنني أخشى من جهة أخرى تداخل المصالح ، هذا رأي ويمكنك تعميق الموضوع معه متى شئت.
أثناء مراجعة أحمد باب للرئيس سيدي في مسألة ما فاتحه في الموضوع مجددا فرد عليه بأنه لا يرى أن بإمكانه التوفيق بين المهام إذا لم تكن متعارضة أصلا، وأضاف أنه على كل حال ومهما كان موقعه فإنه سيقدم كل ما بوسعه وأنه يمكنه أن يعول عليه.
ثم التقيته مجددا عند تشكيل الحكومة وطلبت منه في مرحلة أولى العمل على إظهار الطابع المدني للحكم. وإخفاء المظاهر العسكرية ما أمكن ذلك حتى يقتنع الكل أن تحولا حقيقيا قد طرأ أو هو في الطريق .
وفي هذا الإطار قلت له أن حل جهاز الأمن الرئاسي قد يكون خطوة هامة في هذا الاتجاه، فكل الأنظار موجهة إليه والكثيرون يعتقدون أنه من أهم مراكز السلطة و مركز صناعة القرار في البلد ، يقال ان من راقب العواقب لم يندم و التدبير قبل الفعل يؤمن من المفاجئات.
حدثته بالحرف الواحد أن رئيس الجهاز رجل مهم قدم لك دعما هاما وساعد في نجاحك خاصة بين الشوطين ، لماذا لا تقم بتعيينه على منصب كبير داخل المؤسسة العسكرية، و ليكن بعيدا عنك.
ذكر لي أنه لن يفعل ذلك لسببين احدهما هو الذي ذكرته له وهو الدعم الفعال والذي قدمه له المعني والذي كان حاسما في وصوله للسلطة والآخر هو أن مؤسسة أمن الرئاسة كانت قائمة وتعمل منذ 20 سنة ولا يرى داعيا لتحييدها أو حلها أو تغيير طبيعتها.
وبدأ سيدي يعمل في جو موبوء و وسط الكثير من الشراك المنصوبة بغية الإيقاع به وشابت أداءه بعض الأغلاط عن حسن نية طبعا حيث لم يشأ أو لم يستطع وضع جهاز الأمن تحت سيطرته وظل ذلك الجهاز يعمل كما كان بل انه انفرد على الساحة بعد خروج الضباط الكبار الذين كانوا يشكلون أقطاب توازن داخل المؤسسة العسكرية,
وبدأ رئيس جهاز الأمن الرئاسي ينسج الخيوط و يشدها نحوه ويعيد ترتيب الأوراق وبدا الرئيس سيدي رئيسا منقوص الصلاحيات ، وطبعا فإن هذه الوضعية لابد أن تؤدي إلى خلافات ما لبثت أن بدأت تطفو على السطح.
لقد استدرج سيدي بطريقة لا تخلو من دهاء حين منح رتبة جنرال لقائد الأمن الرئاسي وبهذا سجل هدفين ضد نفسه
لقد خلق بذلك تذمرا ضده داخل المؤسسة العسكرية من جهة وأعطى لخصمه الجديد بحكم ترقيته له أحقية في القيادة وتبوء المناصب الهامة سيتم استغلالها ضده في القريب العاجل.
ووجد سيدي نفسه في منطق مواجهة لا مفر منها مع حليفه السابق ولم يكن بطبيعته وأخلاقه ممن يمكن أن يستسلم وبذلك دخل الطرفان في مواجهة غير متكافئة ودخلت معهم البلاد أزمة سياسية حادة و بدت كأنها رجعت إلى المربع الأول.
الاحتقان- الوساطة
وطبعا دخلت إلى خط الأزمة جهات عديدة داخلية وخارجية من النظام ومن المعارضة وكانت كلها تسعى إلى ترجيح الخلاف عسى أن تخلق وضعا جديدا يمكنها الاستفادة منه.
في هذه الظروف البالغة الدقة كان سيدي على وشك السفر إلى قمة اقتصادية عربية في شرم الشيخ ( يوليو 2008). وبعد ما توصلت إليه من أخبار اتصلت عليه وطلبت منه إرجاء سفره لأن الظرف غير مناسب . أجابني بأنه سفر هام ومبرمج سلفا، لكنه سوف يتصل به فور عودته، ثم اردف يقول كما تعلم نحن أصدقاء منذ ما يزيد على 40 سنة إذا كانت لديك شكوك أو معلومات قدمها لي صراحة.
أجبته أن ليس لدي معلومات سوى ما يجري على كل الألسن و يتداول في الصالونات لكن توجد أولويات والبلاد في أزمة، ونحن في نظام رئاسي يتمتع فيه الرئيس بصلاحيات كبيرة و لا بد من عمل شيء ما لحل هذه الأزمة قبل وصولها إلى نقطة اللاعودة، ليس مع الخلاف ائتلاف.
كان لقاؤنا يوم السبت في منتصف النهار ووعدني أن يستقبله قبل ذهابه وفعلا استدعاه نفس اليوم.
وفور عودتي للمنزل اتصل بي أحمد باب الذي كان على علم بموعد لي مع الرئيس وحدثته عن أهم ما جرى بيني و بينه ، فاقترح علي أن أكلم الجنرال محمد ولد عبد العزيز دائما من أجل العمل على التقارب وعسي أن يفتح ذلك طريقا لرأب الصدع كان تدخلي من منطلق انه في الشدة يختبر الصديق و أن من نصحك أحسن إليك.
وفعلا ناولني هاتفه وكان محمد ولد عبد العزيز على الطرف الآخر للخط، دامت المكالمة ربع ساعة تقريبا قدمت له النصح وأوصيته بالتريث والبحث عن التصالح وبينت له أن أي تهدئة ونجاح وعودة الأمور إلى نصابها سوف تحسب له كما أن التصعيد والفشل وتوجه البلاد نحو المجهول سوف يحسب عليه أيضا.
كان رده صريحا ومسؤولا ، وقال لي أن لن أبخل أي جهد إذا ما اتصل علي الرئيس وذكرني بأن العرقلة الحقيقية في صديقك كما قال فكلما تقدمنا واتفقنا حول نقطة ما جاءه قوم ونسفوها، تلك هي المعضلة الحقيقية.
و فعلا اجتمعا في نفس اليوم و تم خلال اللقاء نقاش نقاط عدم الاتفاق التي كان من أهمها إسقاط الحكومة.
اتصل علي سيدي نفس اليوم وحدثني عن اللقاء وقال لي لا داعي للقلق فقد اتفقنا مبدئيا وسوف نعمق النقاش فور رجوعي ، حصل سيدي خلال القمة على تمويلات هامة والتزامات هامة أيضا (تقدر بأكثر من 4 مليار دولار) ورسم تصورا للنهوض بالبلاد وتنميتها ، لكن وكما يقال تجري الرياح بما لا تشتهي السفن،
التحضير للانقلاب
بدأت حملة مركزة لزعزعة الرئيس استهدفت انتماءه الصوفي ثم أسفاره ثم عائلته ثم أهم معاونيه، وكانت تسعى لرسم صورة مشوهة عن الرئيس بغية تهيئة الظروف للإطاحة به ومنعه من تنفيذ طموحاته لفائدة البلد.
في 3 أغسطس أدت تلك التفاعلات المعروفة إلى تنفيذ الانقلاب للإطاحة به وواجهه الرئيس بشجاعة كبيرة وروح راضية بالقدر وبشهامة منقطعة النظير ، تعرض للضغوط والإهانة والتشويه وعانى في عائلته ولم ينثن بل ظل صامدا.
بدأ النظام الجديد يتخذ إجراءاته الأولى وواجه عدم قبول كبير خاصة على المستوى الخارجي ، تأسف الكل على اغتيال الحكم الديمقراطي وصنف ما جرى على أنه انتكاسة كبيرة للديمقراطية .
الحقيقة أن أغلب الموريتانيين فضلوا تجنيب بلادهم المزيد من المشاكل تماما كما فعلوا في السابق وتحلوا بقدر كبير من الواقعية بما فيهم الرئيس سيدي نفسه ، فالأمر الواقع يفرض نفسه أحيانا كثيرة و موازين القوة غالبا ما لعبت دور الحكم ، و هي حكم غير عادل طبعا.
تكيف أغلب الموريتانيين مع الوضع الجديد وأثروا طي الصفحة وكان لكل مبرراته .و بعد شد و جذب، ألقى الرئيس سيدي خطاب التنازل المعروف فاتحا بذلك فرصة حقيقية لحل الأزمة التي كان وحده من يملك مفتاحها وأعلن انه عفا و اصفح عن الكل لوجه الله و من اجل الوطن و خرج من الباب الكبير مرفوع الرأس و توارى عن الأنظار.
وبدأ النظام الجديد يثبت أركانه وتم الدفع بوجوه جديدة نحو الواجهة وطبعا بقي العديد من السياسيين المتمرسين ورموز وأقطاب المعارضة القائمة في الصف الواقف ضد النظام .برزت أيضا ملامح خطاب سياسي جديد يدعي الانحياز للفقراء والمهمشين ويعلنها حربا مستعرة على الفساد ورموزه.
فتح النظام الجديد آمالا عريضة للشرائح المهمشة وخلق مطالب اجتماعية كبيرة لم يستطع تلبيتها لا حقا وكان البحث جار عن مكاسب عاجلة يتم تقديمها لأولئك الذين تبنوا خطاب التغيير.
كان البحث يجري أيضا عن تكوين ولاءات جديدة تحل محل رموز رسخوا وجودهم خلال العقود المنصرمة و يتمتعون بتأثير قوي، وهنا ظهرت الدعوة لتجديد الطبقة السياسية .
في مثل هذه الظروف عادة تنتشر تصفية الحسابات ويتم الإيقاع بالأشخاص بل وبالمجموعات والجهات: إجتثاث المئات من أُطر قبيلة معينة من الإدارة مثلاً. إنها سياسة معروفة. وهكذا تسلل بعض من المنتفعين وعديمي الخبرة والوصوليين إلى مفاصل هامة من الإدارة، بل أنهم أصبحوا قريبين جدا من مراكز النفوذ و القرار.
هكذا ظهرت طبقة مسؤولين بلا مستويات تقريباً وبلا خبرات قطعا (إلا من رحم ربك) وحين تسند المهام الى غير أهلها فلا تسأل عن النتيجة. وكان هؤلاء (اي الإنتهازيون) يتبجحون بولائهم المطلق للنظام و يبحثون عن المنافع غير المستحقة ويلفقون التهم ضد الأبرياء والشرفاء لإبعادهم عن الطريق.
أما العقلاء و المتزنون من المسؤولين فلا يأخذ برأيهم غالباً ويتم تهميشهم إذا لم يتبنو الخطاب السائد.
النقاط المضيئة
أبدى النظام إذا إرادة جادة في التغيير وتم العمل على القضاء على أحياء الصفيح التي بقيت أكثر من المقبول في العاصمة وكبريات المدن وشوهت وجه المدينة ، وتم توزيع قطع أرضية مجانية على الآلاف من العائلات الفقيرة.
ومن أجل ترسيخ الوجه الحضاري للبلاد تمت طباعة نسخة محلية من المصحف الشريف وأنشأت إذاعة للقرآن الكريم وتم دمج الكثير من الأئمة ووفرت لهم الدولة رواتب منتظمة على ما أعتقد لأول مرة و أعلن عن مشروع الجامع الكبير للعاصمة.
ولعل أهم إنجازين لهذا النظام هما تأمين حدود البلاد حيث تم تنفيذ سياسة حاسمة اتجاه المنظمات الإرهابية و تطوير الحالة المدنية.
إنها انجازات هامة نذكرها على سبيل المثال لا الحصر.
النقاط المعتمة
رغم هذه الانجازات الهامة هناك قطاعات لم تحظ بالاهتمام اللازم، فلا زال قطاع العدالة علي سبيل المثال وكرا للفساد والمحسوبية والسمسرة وقضاته لا يتمتعون بالاستقلالية ولا بالتكوين المطلوب وأحكامه مجمدة، ولا تحظى بالثقة اللازمة. وذلك رغم الخطاب الرسمي الذي يمجد محاربة الفساد و دولة القانون، ورغم أن العدل أساس الملك وأن الظلم مؤذن بخراب العمران- كما يقول ابن خلدون-، ورغم أنه لا عدل بدون قضاء ولا فائدة في قضاء لا نفاذ لأحكامه "يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له". وهناك أمثلة