-موقع الاستقلال- " سئل الحسنُ البصري عن عمرو بن عبيد فقال: "لقد سألتَ عن رجل كأن الملائكة أدبته، وكأن الأنبياء ربّته. إنْ قام بأمر قعد به، وإن قعد بأمر قام به، وإن أمر بشيء كان ألزم الناس له، وإن نها عن شيء كان أترك الناس له. ما رأيتُ ظاهرا أشبهَ بباطن، ولا باطنا أشبه بظاهر منه."
في خريف عام ألفين وعشرة، عدتُ إلى البلاد قادما من "جنوب الجنوب" بعد أن حزم اللاعبون أمتعتهم وعادوا إلى بلدانهم، وانقضى كأس عالم القارة السمراء. عدت إلى البلاد من ذلك الصخب العابثِ وفي ذهني أن أهمّ ما سأقوم به رحلة إلى رجل أبعد ما يكون عن ذلك الصخب وذلك العبث.. شيخ شيوخنا المرابط الحاج. فقد كنت أخشى أن يترك هذا العالمَ دون أن أراه، وحسبتُ إدراك زمانه والتقصيرَ عن رؤيته نقصا في المروءة والوعي التاريخي وتقدير أهل الخير.
ما إن وصلت كرو حتى استأجرت سيارة قادرة على التوغل الجبلي، وأخذت معي رفيقين من أحبتي. خرجنا من كرو متجهين شمالا، وقتَ بزوع الشمس على التلال بأشعتها الذهبية المنعكسة على الندى الجاثم على الأشجار والنباتات المخضرة الأخاذة.
كانت اللاندكروزر تنهب الطرق الرملية والجبلية نهباً، ونحن على متنها نستحثها مفكرين في لحظة رؤية الشيخ. انشغلت بالتفكير في شكل تلك البقعة الصغيرة النائية التي يسكن الشيخ، مستعيدا آلاف القصص والحكايات التي سمعتها عنها في صباي.
فكم سالتْ دموعٌ في تلك الربوع، وكم أحيا الشيخُ وطلابه لياليها البيض بقراءة القرآن ومدارسة العلم. واقتربت السيارة من المنطقة بعد عدة ساعات من السير، فأبصرت صخور "تويمرات" لأول مرة.
هنا، بين هذه الحجارة الملساء عاش الشيخ حياة لم تعرف السكون لحظة واحدة. فقد مرت عليه سنون طويلة يجلس للتدريس من وقت الإشراق إلى الظهر، ثم يواصل التدريس من بعد صلاة الظهر حتى منتصف الليل. لا يقطع ذلك إلا بصلاة.
هنا بين هذه الصخور النائية دارت آلاف المناظرات والحوادث.. هنا عاش الشيخ الحاج مخبتا لم يتعب يوما من طول الطريق، ولا ملّ من مكابدتها، ولا استوحش "ابنُ السالك" من قلة السالكين.
لم يكن المرابط الحاج ولا محظرته محظرةً عادية ولا كان هو رجلا عاديا بالنسبة لجيلي. لقد ربيتُ "والمرابط" بأل العهدية لا تنصرف إلا له. فـ"جئيتُ من عند المرابط، وقال المرابط، وكنا عند المرابط،" عبارات لا لبس فيها لأجيال كثيرة من الناس.
ليست ميزة المرابط في أنه يُدرس الناس العلم، فالعلماء كثر ومنتشرون في كل صقع. وليست ميزته في ورع داخلي فحسب، ففي مسارب الدنيا متقون ورعون وصلحاء.
ميزة الشيخ أنه جمع كل ذلك وأكثر وزاد عليه، مع استقامة تتعالى على العادات والأعراف والمحيط الاجتماعي، وورع واستقامة عز تخيلهما. تميز باستقامة لم تعرف لحظةَ هبوط أو تغير أو ملل أو كلل. كان رجلا أخروياً، كأنما رُفع له الحشر ينظر إليه منذ ولد فلا يفتر ولا ينسى.
لقد تربتْ أجيالٌ كاملة على علم المرابط وهديه، وسأضرب مثالا من محيطي.
فأنا من جيل لم يحظ بالتتلمذ على الشيخ، لكن علمه وبركته يحاصراني. فأنا أخذت الإجازة - ودرست بعض المتون- بمحظرة الشيخ أحمد فال بن أحمدنا، وهو أحد مساديره علما وهديا.
وحدثي والدي معلوم الدين بن حمَّه رحمه الله (2014-1936م.) أنه تعلم حروف الهجاء في محظرة المرابط طفلا، ثم عاد إليه كبيرا ليدرس عنده عدة تصانيف ومعظم مختصر خليل. وكذلك ما من أحد من إخوتي أو أخوالي أو أعمامي إلا كانت له تلمذة –طالت أو قصرت- بمحظرة المرابط.
ترجل ثلاثتنا من السيارة، فتلقانا أبناء الشيخ بكرمهم المعهود وحفاوتهم المتوارثة.
تحركنا إلى العريش حيث يستلقي المرابط. كان الفصل خريفا والحر شديدا، والشيخ قد كبر. جلسنا وأنا أنظر إلى هذا الجسد مستعيدا في ذهني كل ذلك الورع والزهد وآلاف القصص التي تربيت أسمعها. غير أن قصة واحدة على بساطتها قفزت من تلافيف الذاكرة وأنا أتأمل الشيخ وأفرك رجليْه بيدي.
حدثني أخي وخالي الأكبر الشيخ إسلمُ بن محمد المختار بن داهي –رحمه الله رحمة واسعة- أنه استيقظ ذات ليلة قبيل السحر، فسمع الشيخ يردد هذا البيت تَردادا شجيا كأنه يُعزر نفسه:
صبوتَ إلى الدينا وذو اللبّ لا يصبو * وغركَ منها السلمُ، باطنُها حربُ!
مكث المرابط وقتا طويلا يكرر البيت تكرارا شجيا، ممسكا لحيته بيديه، وكأنه يعاتب نفسه على موبقات.
وعندما خرجنا من منزل المرابط حدثتُ رفيقي -المصطفى المدني- بهذه القصة، فتبسم قائلا:
"وماذا يفعل المرابط حتى ينظر إلى نفسه على أنها انجرفت إلى الدنيا؟ لعله وقف من عريشه وتمشى قليلا فهبّ نسيم عليل، فعلى مثل هذا يعاتبها كل هذا العتاب وكأنه أخلد إلى الأرض!"
رحم الله المرابط، فقد وُلد على ظهر الأرض، لكن روحه تسكن عالما آخر.
دينٌ على من عاشر الشيخ وتتلمذ عليه وسمع منه كفاحاً أن ينتدب لكتابة كتاب جامع عنه. يتحدث فيه عن شيوخه وطلابه وتاريخ محظرته وهديه وسلوكه.
وأنا أدعو أخي المؤرخ والفقيه محمد يحي بن حريمو للقيام بهذه المهمة.
الصحفي بقناة الجزيرة أحمد فال ولد الدين