-موقع الاستقلال-
ذات صيف من سنة 1988م، قاربت السنة الدراسية على الانتهاء، وكنا في المدرسة العليا للتعليم أساتذة لا نتعدى أصابع اليد في قسم اللغة العربية.
وكان التقليد المتبع وقتها أن يقدم الطلبة بحوث تخرج، حول مواضيع يختارونها بإشراف الأستاذ، وتتم بلورتها وصياغتها لتعقد لها لجنة نقاش في آخر السنة.
ومن البحوث التي قدمت لهذه السنة: (الغزل في شعر المختار ولد حامدن)، وكنت عضوا في لجنة نقاش الرسالة، ويبدو أن موضوعها استقطب حضورا مكثفا من الأساتذة والطلبة والمهتمين بالشعر.
ومن المآخذ التي سجلت على الطالب، أنه أقصى من مدونة البحث، قصيدة المختار التي مطلعها:
دَعَـانِي نَاصِـحٌ مِنْ أَهْـلِ وِدِّي@@ لِـيُـرْشِـدَنِي إِلَى الـرَّأْيِ الْأَسَــدِّ
وَقَالَ الشِّـعْـرُ مِنْهُ الْعِلْمُ أَجْدَى@@ عَلَيْكَ، فَدَعْهُ عَنْكَ، فَلَيْسَ يُجْدِي
ولم يكتف بهذا، بل ذكر في الهامش أن كثيرين يعتبرونه هذه القصيدة غزلية؛ وهي أبعد ما تكون عن الغزل، بل هي قصيدة في نقد الشعر، وأبواب القول فيه.
وحين تناولتُ الكلام، ذكرتُ أن شعر المختار بن حامدن عموما مكتنز الدلالات، كثير الإحالات، ومتنوع المرجعيات؛ وأن هذه القصيدة بالذات، حمالة أوجه، فيمكن أن تُقْرَأَ على أنها قصيدة غزلية، كما يمكن أن تؤول على أنها قصيدة في نقد الشعر.
وهنا تولى الأستاذ المشرف الرد علي، وقال: إن الخلط كبير عند من يعتبر هذه القصيدة قصيدة غزلية، وأنها قصيدة في النقد، كما هي قصيدة ولد الشيخ سيديا العينية.
يا معشرَ الشعراءِ هل منْ لَوْذَعِي@@ يَهْدِي حِجَاهُ لِمَطْلَعٍ لَمْ يُسْمَعِ
وأفاض في الحديث دفاعا عن تلميذه.
وتهيأت للرد، لأذكر ما كنت أتجنب ذكره، وأتحرج من الاستشهاد به للتدليل على أن القصيدة غزلية بالأساس أصلا وفرعا، وأنني أعرف السياق الذي قيلت فيه، وزمان قولها، ومكانه، والمعنية بها.
وهنا طلب الدكتور الأمير ولد آكاه، وكان حاضرا معنا التدخل، وقال:
"حدث في السنة 1981م أن وردت مقطوعة من هذه القصيدة في امتحان الباكالوريا، قبيل مغادرة المختار بن حامدن وطنه الأم إلى الديار المقدسة.
وكنت ومجموعة من أساتذة اللغة العربية في لجنة التصحيح، عاكفين على وضع نموذج للإجابة على الأسئلة، ولكن خلافا قويا نشب بين المصححين حول إعراب جملة في النص طُلب إعرابها، وهي قوله في الأبيات المقتطعة على غير ترتيب من القصيدة :
فَـلَـمَّــا أَنْ رَأَتْ هَـجْـرِيـهِ هِـنْــدٌ@@ وَتَـوْدِيـعِـيــهِ فِي صَـــدَرِي وَوِرْدِي
مَشـَتْ بَيْنِي وَبَيْـنَ الشِّعْـرِ هِنْدِي@@ وَهِـنْـدِي أَمْــلَـحُ الشُّـفَعَـاءِ عِـنْـــدِي
أَجِدَّكَ قَدْ هَجَـرْتَ الشعْـرَ؟ قَالَتْ@@ فَقُلْتُ: نَعَمْ، هَجَـرْتُ الشِّعْـرَ جِــدّي
أَطَـعْــتُ الْآمــِرِيَّ بِـذَاكَ، عَـلِّي@@ أَكُــونُ بِـهَـجْـــرِهِ كَـأَبِــي وَجَــــدِّي
فَقَـالَـتْ مَا بِهَجْـرِ الشِّـعْـرِ، لَكـِنْ@@ بِهَجـْـرِ الْهُـجْـرِ نَـالَا بَـعْـــضَ جَــدِّ
فَقُلْتُ: الشِّعْـرُ لَا يُجْـدِي، فَقَالَـتْ@@ بَلَى يُـجْــدِي، وَلَا يُـــزْرِي بِـمَـجْـدِ
فَقُلْهُ، وَصِـفْ بِهِ قَـمَـرِي وَلَيْلِـي@@ وَغُصْنِي، وَجْنَتِي، فَـرْعِي، وَقَـدِّي
وَصِـفْ مَـا فِيَّ مِنْ غَـنَـجٍ وَدَلٍّ@@ وَصـِفْ مَا فِـيـكَ مِـنْ وَلَـهٍ وَوِجْــدِ
وَصِفْ بَانَ الْكَثِيبِ يَمِيسُ مَيْسًا@@ كَـمَـيْــسِ بَـنَـــاتِ سِـيـرَه بِهِ وَهَــدِّ
وَصِفْ غَيْبُوبَة الظُّعُنِ الْغَـوَادِي@@ ضُحًى فِى الْآل؛ يُخْـفِـيـهَا وَيُبْدِي
وَصِفْ وَمْضَ الْبُرُوقِ تَقُودُ لَيْلًا@@ رَبَـابَ السَّـعْــدِ إِذْ تُحْـدَى بِـرَعْـدِ
كَـأَنَّ رُعُــودَهُ تَحْـــدُوهُ تَـشْـــدُو@@ وَتَهْـدِيهِ الطَّـرِيـقَ؛ الطَّبْـلُ يَهْـدِي.
فقد طلب إعراب جمل في النص ومنها: الجملة (تشدو) في البيت الأخير، ولا شك أن الواضح فيها أنها جملة حالية، ولكن أساتذة قالوا بإعرابها نعتية، وتأولوا في ذلك.
وهكذا بقينا سحابة اليوم في أخذ ورد بشأنها، ورفعا للخلاف وحرصا على البدء في التصحيح، قررنا أن نقبل فيها الوجهين، ونعطي العلامة لمن ذكر أحدهما.
ومن الصدف الغريبة، أني خرجت عشية نفس اليوم من الثانوية قاصدا (ابلوكات)، وإذا بي ألتقي المختار بن حامدن(اتَّاهْ) يتمشى - كعادته في العشيات- بين منزله القريب من دار الثقافة، وحوانيت (لحراطين) في الحي القريب، سلمت عليه، وبادرته مخبرا ومتسائلا:
-اتَّاهْ لقد وردت مقطوعة من قصيدتكم اليوم في امتحان الباكالوريا، وطلب إعراب الجملة (تشدو)
في البيت:
كَـأَنَّ رُعُــودَهُ تَحْـــدُوهُ تَـشْـــدُو@@ وَتَهْـدِيهِ الطَّـرِيـقَ؛ الطَّبْـلُ يَهْـدِي.
فما هو إعرابها؟
فتبسم المختار بن حامدن (اتَّاهْ) قائلا:
-القصيدة كلها، لا محل لها من الإعراب."
وهكذا أنقذ الأمير الموقف، وكفاني مؤونة الرد والدخول في تفاصيل شائكة.
من صفحة الدكتورة باته البراء Sama Rama