-موقع الاستقلال- بعد ذلك بسنتين، في أواخر ديسمبر 2008، كنت سفيرا مقيما في دكار ومعتمدا لدى دول أفريقية أخرى، و واجهت في نفس البلد مشكلة احتيال وتدليس خطيرة تورط فيها أحد التجار الموريتانيين. والقضية بإيجاز هي أن رجل أعمال لبناني اشترى 5 حاويات من أسماك القاع من تاجر موريتاني، ودفع له الثمن بالكامل. وتمت إجراءات تصدير البضاعة من ميناء نواكشوط بإمضاء وإجازة مصالح الميناء والتجارة الخارجية والجمارك والصحة والأمن، إلخ. باختصار، استوفت الحمولة كل الشروط الإدارية المطلوبة. ووصلت الحاويات إلى وجهتها المحددة؛ وهناك فتحت للتفتيش، فإذا هي تحتوي أطنانا من التُّراب المُغبر، فقط! وعلى الفور، استولت الصحافة المحلية على الموضوع. شاع الأمر و ذاع. وأطلقت حملة تشويه وإساءة غير مسبوقة ضد موريتانيا والموريتانيين. وتم اعتقال مشتبه به. وتفاقمت الحملة بعد الحادثة بأيام قليلة إثر وفاة رئيس الجمهورية، ودخول ذلك البلد في مرحلة انتقالية صعبة. وكنا نحن أيضا في موريتانيا نمر بمرحلة انتقالية صعبة ومعقّدة برئاسة "المجلس الأعلى للدولة" بعد الانقلاب على الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله، رحمه الله.
تذكرت سفر 2004، و بدأت أسأل عمّن يدلني على الشيخ "الحجّاب" عسى أن يساعدني في الموضوع.
وبعد اتصالات مع بعض أقاربه في الداخل والخارج وصلت إليه، وكلمته دون تردد. عرّفته على نفسي، وذكّرته برحلتنا من دكار قبل 4 سنوات، ثم شرحت له تفاصيل المسألة المطروحة. قلت له: " سيّدي، لقد منّ الله عليكم بقوة نفوذ وجاه وتأثير يحتاجها البلد الآن، وهي جزءٌ من قوته الناعمة وفرعٌ من أصوله الدبلوماسية. وكما تعلمون، سيّدي، إني كنت قبل هذا نائبا في البرلمان و وزيرا للخارجية، وعلّمتني الحياة أن الدبلوماسية الرسمية لا تستقيم دون دبلوماسية "مدنيّة حرّة"• وأنتم أشياخنا وكبار جالياتنا في الخارج هم المحرّك الحقيقي لهذه الدبلوماسية "الموازيّة". نحن السفراء والقناصل نتحرك ضمن معاهدات قانونية تحد من حريتنا، وتلزمنا التحفظ والحيطة والاحتراز؛ أما أنتم فلكم الحرية التامة في التحرك والتصرف. وعليه، ساعدونا جزاكم الله خيرا في حل هذه المشكلة، بدءا بإسكات الصحافة، وإطلاق سراح مواطننا الموقوف، وانتهاءً بتسوية ودية مع التاجر اللبناني.
استمع إلي الحجّاب بأدب واهتمام، وكان يقول من حين لآخر، "حگْ الحمد لله، حگ الحمد لله". وبعد انتهاء كلمتي، ردّ قائلا: الله المستعان. في الحقيقة، الرئيس فلان كان أحد تلامذتنا المخلصين، وكان رجلا ديِّنا وكريما. وافاه الأجل المحتوم قبل أيام بعد صراع طويل مع المرض. وسبحان الله العظيم، لقد تنكّر محيطه قاطبة لعلاقتي به: أسرته، أعوانه من وزراء وحكام و حرّاس. تخلّوا عنَي جميعا. كل أصدقائي وأحبائي الذين كانوا بالأمس يطوفون من حولنا أصبحوا اليوم يتجنّبون الرد عليّ في الهاتف، ونصحني أحدهم بعدم حضور جنازة الرئيس، رحمه الله. وختم بالقول، ولكني، سوف أطلب التدخل من صديقي، الرئيس فلان، إنه رجل طيب جدا، وله شخصية قوية. وسيقبلون طلبه، بإذن الله.
انتهت المكالمة، وأنا أقول في نفسي: "من أحبّك لشيء أبغضك لفِقده"، وصدق من قال:
"والناسُ أعوانُ من والتهُ دولتُهُ * وهم عليه إذا عادتهُ أعوانُ.
ويتساوى في ذلك الرئيس والوزير والسفير والمدير •• والحجّاب..
واتصل الشيخ بتاجر لبناني في دولة أفريقية وحمّله رسالة إلى رئيس آخر. وبعد ذلك بيومين أو ثلاثة، أخبرني بأن السلطات المعنية تنتظرني لتسوية الموضوع. سافرت إلى هناك، وتمّ إطلاق سراح المشتبه به، وسدد التاجر الموريتاني لزميله اللبناني ثمن البضاعة مع دفع غرامة رمزية، وأجريت شخصيا لقاء مع الصحافة شاكرا تعاون السلطات، ومشيدا بمتانة العلاقات بين البلدين. وانتهى الموضوع. سألت الشيخ بعد ذلك: هل تحتاجون أي خدمة من الدولة؟ هل لديكم رسالة تودون إيصالها إلى الرئيس؟ هل أطلب لكم جواز سفر دبلوماسي؟ قال: لا، لا، الحمد لله، لا حاجة لي في شيء من ذلك. كُلًّا نُّمِدُّ هَٰٓؤُلَآءِ وَهَٰٓؤُلَآءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا"•